بقلم الدكتور جونزالو كاسترو دي لاماتا، المدير التنفيذي لـ"إرثنا: مركز لمستقبل مستدام"، عضو مؤسسة قطر
يحظى الحديث عن التدهور المستمر للبيئة بنصيب كبير من النقاشات التي تدور في عصرنا الحالي. ومن أبرز ما يلفت الانتباه أن كثيراً من العلماء والسياسيين وغيرهم من المشاهير يعربون عن قلقهم حول هذا الموضوع دون الاستناد إلى بيانات حقيقية تدعم آراءهم، حتى أن البعض يقول إن الحضارة البشرية في طريقها إلى الزوال لا محالة، لكن الواقع يخبرنا بأننا أكثر الأجيال رخاءً في تاريخ البشرية كلها. وهنا تحضرني عبارة روبرت أوبينهايمر التي يفرق فيها بين النظرة الإيجابية والسلبية، إذ يقول "ينظر المتفائل للواقع بأنه أفضل ما في الإمكان، أما المتشائم فيخشى أن يكون المتفائل محقاً في نظرته". دعونا إذا نناقش هاتين الرؤيتين.
لسنوات عدة، عكف علماء بمركز ستوكهولم للمرونة المناخية على تعريف "الحدود الكوكبية" ومتابعة الالتزام بها. ويقصد بالحدود الكوكبية الإطار البيئي الآمن لممارسة النشاط البشري على كوكبنا. وهي تسعة حدود مادية وبيئية، قد يؤدي انتهاكها إلى إلحاق ضرر بالغ بالنظام البيئي وبالحضارة البشرية، إذ تقوض استقرار نظام الكوكب وقدرته على الصمود. وقد أوضح المركز في تقرير صادر في عام 2023 أن ستة حدود من أصل تسعة قد جرى تجاوزها، وتشمل الدورات البيوجيوكيميائية المتغيرة، واستهلاك المياه العذبة، وتغيّر استخدامات الأراضي، وسلامة المحيط الحيوي، والتغيّر المناخي، والكيانات الجديدة (المواد البلاستيكية الدقيقة، ومثبطات الهرمونات، والمواد المشعة، والكائنات المعدلة وراثياً). أما الحدود الثلاثة المتبقية، فهي تحمض المحيطات وقد اقتربنا من تجاوز هذا الحد، وحمل الهباء الجوي وقد جرى تجاوزه في بعض المناطق، وأخيراً نضوب طبقة الأوزون، وهو الحد الوحيد الذي استعاد عافيته نوعاً ما. وقال الباحثون عن هذه الدراسة إنها تطلق نداء لليقظة يحذرنا من أن الأرض تواجه خطر الخروج من العصر الهولوسيني (العصر الحالي)، أي أننا بعبارة بسيطة على وشك تدمير كوكبنا.
أما النظرة الأخرى فيتبناها علماء مثل الدكتورة هانا ريتشي بجامعة أوكسفورد، مؤلفة الكتاب الصادر حديثاً "ليست نهاية العالم: كيف نصبح أول جيل يبني كوكباً مستداماً". تقول ريتشي حين ننظر نظرة شاملة للبيانات ومعايير التقدم البشري كالصحة والازدهار، نجد صورة مختلفة تماماً. وتوضح ريتشي أن البشرية أحرزت تقدماً هائلاً في محاربة الفقر والتدهور البيئي، ما يجعلنا مؤهلين لتحقيق الاستدامة للمرة الأولى في التاريخ. ومن بين البيانات التي تعضد حجة ريتشي انخفاض انبعاثات الكربون في العقد الماضي، ومواصلة الغابات لاستعادة عافيتها، بعد أن وصلت مستويات التجريف ذروتها في ثمانينات القرن الماضي، وانخفاض الوفيات الناجمة عن الكوارث البيئية مقارنة بالقرن الماضي. وفي ضوء البيانات الشاملة التي جمعتها حول البيئة والاستدامة، خلُصَت ريتشي إلى أن التحديات التي نواجهها هائلة، ولكن حلها ممكن، ومصيرنا ليس محكوماً عليه بالفناء.
إذا، ماذا يعني ذلك لصنّاع السياسات البيئية؟ يعني أننا علينا إدراك بأنه كلما تقدمنا علمياً، ستنقسم آراؤنا بالضرورة حول بعض الموضوعات. وانطلاقاً من ذلك، يجب أن نلتزم بالقواعد الأساسية للنقاش، وأن نواصل بناء قراراتنا على العلم لا أن يحركنا الخوف والقلق والتسرّع. فالعلم هو الأساس الذي تستند عليه السياسات والقرارات المدعومة بأدلة علمية وبيانات دقيقة. ومن جانبنا، نسعى في "إرثنا" لفهم التحديات البيئية في دولة قطر وبناء مسارات للسياسات البيئية مدعومة بالبيانات لكي تسترشد بها الدولة في مسيرتها نحو تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030. لا يجب علينا إذا أن نستسلم لليأس، بل نحتاج للعمل على حل المشكلات متحلّين في ذلك بنظرة متفائلة ومتسلّحين بالعلم والمعرفة.